الجهوية المتقدمة بين التجارب المقارنة و الطرح المغربي
یؤشر الطلب المتزاید على السیاسة الجهویة في النصف الأخیر من القرن العشرین على
التحولات الجوهریة التي بات یعرفها النظام السیاسي على مستوى نمط التنظیم الإداري. فالدولة
لیست سوى ظاهرة تاریخیة ولیدة إبداع وتجدید متوقعین في الزمان والمكان. والجهویة من هذا
المنظور تبدو كتعبیر عن تطور سیاسي مطبوع بمجموعة من التحولات التي تنقل جماعة بشریة
من نظام اجتماعي إلى آخر یتمیز بمستوى أعلى من التدبیر الذاتي. وهي كذلك تعبیر عن تحدیث
سیاسي، یقتضي عقلنة للسلطة، تنویع للبنیات، وتوسیع لدائرة المشاركة السیاسیة.
فمسار المركزة والتحدیث رغم أنه ساهم في الاندماج الثقافي والسیاسي داخل الدولة، فإنه كذلك
أحدث توجها مناقضا وهو تزاید وتنامي الإحساس بالاختلاف الاثني والثقافي وبالانتماء إلى
جماعات أدنى مستوى من الانتماء الوطني.
وا في مجملها عن أزمة الدولة المركزیة وعن لحظة تطوریة في تنظیم ٕذا كانت الجهویة تعبر
السلطة داخل المجتمعات الحدیثة، فإن أبعادها على المستوى المحلي تختلف من تجربة لأخرى،
إذ لیس هناك شكل محدد للجهة، فهي صیغة مرنة ذات مضمون متغیر، لها أوجه مختلفة بعدد
الدول التي تبنتها وبعدد التیارات النظریة داخل كل دولة.
فالجهة قد تكون ذات أساس جغرافي
باعتباره البعد الأقوى الذي ترتكز علیه الجهویة، كذلك یشكل الأساس الاقتصادي أحد الجوانب
الأساسیة التي تؤخذ في الحسبان؛ دون أن ننسى أبدا الجانب العاطفي الذي یترجم الأبعاد الثقافیة
والاجتماعیة.
وقد أفرز لنا اختلاف التوجهات الجهویة بین الدول والتیارات السیاسیة والنظریة مستویات
مختلفة من السیاسات الجهویة في الفضاء الأوروبي الذي یمكن اعتباره مرجعا للتصنیف، حیث
یتم التمییز بین عدة مستویات تتراوح ما بین الجهویة المحدودة في المستوى الإداري إلى الجهویة
السیاسیة القر یبة من التنظیم الفدرالي للدولة.
تعرف العدید من الدول وخاصة النامیة منها تقلبات متوالیة تهدف إلى تركیز أسس الحكم بها
على قواعد دیمقراطیة، سعیا بذلك إلى مواجهة التخلف ومتطلبات التنمیة اقتصادیا واجتماعیا
وثقافیا في إطار أوسع من المشاركة وبتوزیع عقلاني فعال للمسؤولیات. ذلك أن الفترة التي نعیشها
حالیا تتمیز بمعالم هذا التحول الجذري الرامي إلى إرساء نهج جدید وأسلوب حدیث لإدارة القضایا
المحلیة بنقل جزء من سلطات القرار من المركز إلى الضاحیة تخفیفا للعبء عن الدولة. ویرجع
ذلك إلى كون المبررات التي كانت ساریة وأملت من قبل انتهاج المركزیة المشددة لم تعد ملائمة
بصفة عامة، ومنها الانفجار الدیمغرافي والهجرة والاختلال بین الجهات والبطالة وتقلص النخب
المحلیة، الشيء الذي فرض من منظور مقترب جدید إتباع اللامركزیة التي تعد شرطا لكل تنمیة
ومظهر من مظاهر الفعالیة والدیمقراطیة بل تجسد الدیمقراطیة المحلیة والممارسة الیومیة
ٕ عادة توازن النظام
الدیمقراطیة واللامركزیة تمثل معیارا فعالا للحد من مساوئ البیروقراطیة وا
الإداري.
من الصعب جدا تتبع تطور الجهویة في مختلف الأنظمة ومختلف المراحل إلا أنه وبصفة
عامة یمكن القول أن الجهة شهدت تطورا كبیرا ولاسیما في العدید من الدول الصناعیة، وكانت
محور نضالات هامة للخروج بها من دائرة المفاهیم الانفصالیة الضیقة إلى اعتبارها وحدة
لامركزیة متمیزة داخل الهرم الإداري والسیاسي خاصة على مستوى النظام اللامركزي.
تدخل سیاسة الجهویة بالنسبة للمغرب ضمن مسار اللامركز یة الذي انخرط فیه منذ بدایة
الاستقلال، وقد كان یحمل في توجهاته بعدا مناقضا. إذ كان الرهان هو تدعیم بناء دولة مركزیة
حدیثة تقطع مع النمط القبلي لبنیة الدولة المغربیة. فكان تقسیم المغرب إلى جماعات ترابیة تدمج
قبائل مختلفة، وقد یكون بینها في الغالب ماض تاریخي صراعي، وذلك بهدف محو كل تأثیر
للقبلیة في رسم الولاءات السیاسیة وتعویض ذلك بولاء للمركز. وقد ظلت اللامركزیة في المغرب
ٕطار
رهینة منطق إحكام ضبط المجال وتحقیق الاندماج، أكثر منها وسیلة للتنمیة والمشاركة وا
للتربیة على الدیمقراطیة وغرسها في المجتمع. فطیلة تاریخ المغرب المستقل، كانت كل التعدیلات
التي یتم إجراؤها تذهب في اتجاه مزید من إحكام المراقبة على المجال والساكنة، من خلال عملیة
خلق أقالیم وا . وعلى الرغم من التنصیص على المقتضیات والضمانات الدستوریة ٕ لغاء أخرى
والقانونیة فإن استقلالیة الجماعات المحلیة تبقى محدو دة جدا، بفعل الطابع الفوقي لإقرارها، بغایة
الضبط الامني والاجتماعي، مما جعل استقلالها فكرة غیر مستوعبة، لا من طرف السلطة
المركزیة ولا من طرف الساكنة أو النخب المحلیة؛ ثم وجود وصایة مكثفة، سواء على الأجهزة أو
على الأعمال، التي تعد نتیجة حتمیة للمعطى الأول.
ّ سقف أول تجربة جهویة في المغرب، خلق أطر استشاریة ذات طابع اقتصادي تنحصر
لم یتعد
مهمتها في تنفیذ وتنسیق الأشغال والدراسات المتعلقة بالمناطق والعمل على ازدهارها (الفصل 3
من ظهیر 16 یونیو 1971 ،(حیث لم ترق الجهة إلى مستوى الجماعة الترابیة ذات الاستقلال
المالي والشخصیة المعنویة. على أن الخطاب الملكي بتاریخ 24 أكتوبر 1984 سیعبر عن طموح
لإقرار جهویة على النمط الألماني تتمتع فیها الجهات بالسلطة التشریعیة والتنفیذیة وبإمكانیات
مالیة "ما یجعلها قادرة على أن تقف على رجلیها وأن تعرف حاجیاتها وأن تقیم سلم أسبقیاتها وأن
تعبر بصوت جماعي بقطع النظر عن اختلاف الأحزاب والمشارب السیاسیة عن الحاجیات وعن
المطامح، وأن تكون هي الناطقة والمبرمجة وهي المخططة وهي البانیة وهي المطبقة على
أراضیها".
بقي الطموح لمشروع جهوي كبیر موضوع انتظار إلى غایة المراجعة الدستوریة لسنة 1992 ،
التي ار تقت بالجهة إلى مصاف الجماعات المحلیة. على أن ظهیر 2 أبریل 1997 الذي أخرج
الجهات إلى حیز الوجود كان بعیدا جدا عن طموح خطاب 1984 ،ولم یرس جهات على النمط
ٕ نما أرسى مستوى آخر من اللامركزیة خاضع لوصایة المركز وفاقد للكثیر من
الألماني؛ وا
إمكانیات الفعل، سواء على مستوى الاختصاصات المنوطة بها أو على مستوى الموارد المالیة
المتاحة لها.
وفي سیاق دراسة التطور الجهوي بالمغرب، لابد من الاشارة إلى أن تجاذبات قضیة الصحراء
دفعت بالسلطة السیاسیة إلى التفكیر في جهویة تراوحت أسماؤها بین الموسعة والمتقدمة، وتم
تعیین لجنة ملكیة لإعداد هذا المشروع. وتفاعلا مع الحركة الاحتجاجیة للشارع المغربي الموازیة
للحراك السیاسي الذي عرفته منطقة شمال إفریقیا والشرق الأوسط، سیؤسس الإصلاح الدستوري
لسنة 2011 لجهویة لها الكثیر من المؤهلات القانونیة والمالیة المساعدة على الفعل والتدبیر
ٕ الجهوي. ومن أه عطاء
م هذه المقتضیات التي حملها هناك الاقتراع المباشر للممثلین الجهویین، وا
رؤساء مجالس الجهات والاقالیم والعمالات صفة الامریین بالصرف عوضا عن الولاة والعمال،والارتكاز كذلك على عدد من المبادئ كالتدبیر الحر والتعاون والتضامن وا . ویظهر ٕ شراك السكان
من خلال الفصول المخصصة للجماعات المحلیة في دستور 2011 هیمنة البعد التنموي
والاقتصادي في الاختیار اللامركزي.
إن السیاسة الجهویة أضحت المجال المناسب لنجاح أي سیاسة تنمویة. ومما لاشك فیه أن
القانون التنظیمي 14.111 شكل قفزة نوعیة مع التعامل مع إشكالیة اللامركزیة بالمغر ب، وعزز
البعد الاقتصادي والاجتماعي لهذا التنظیم، وهو بالتالي یضع مسؤولیات جدیدة على عاتق
المنتخبین المحلین الذین یجدون أنفسهم على الصعید الجهوي أمام مشاكل وتحدیات جدیدة مخالفة
على ما اعتادوا التعاطي معه على المستوى المحلي. فظاهرة الجهویة تتحكم فیها معطیات
وخصوصیات تختلف باختلاف الأنظمة السیاسیة التي تتبناها، حیث تتنوع علاقات تنظیم المجال
ودرجات استقلالیة من تجربة لأخرى.
وعلاقة بالسیاسات الجهویة المقارنة، ولإعطاء الدراسة بعدا أكثر دقة، تم التطرق للتجربتین
الفرنسیة والألمانیة والإسبانیة لفهم الجوانب الإیجابیة والسلبیة في التجربة الجهویة بالمغرب.
فالتجربة الجهویة الفرنسیة تمیزت بمجموعة من الخصوصیات المنبثقة عن المرجعیة التاریخیة
التي أسست لنظام مركزي صارم، كان لزاما على الدولة إدخال مجموعة من الإصلاحیات الجهویة
الرامیة إلى دمقرطة النظام الإداري عبر توسیع المشاركة الشعبیة في تسییر الشأن العام عبر نظام
لا مركزي یضمن مشاركة المواطن الفرنسي في تسییر شؤونه الجهویة عبر آلیة الانتخاب وداخل
مؤسسات تتمتع بالشخصیة المعنویة والاستقلال المالي والإداري. دون أن یطال ید إصلاح المجال
السیاسي.علاوة على ذلك عرفت العلاقة بین الجهة والسلطة المركزیة منحى حداثیا یتأسس على
منطق التعاقد بدل الرقابة.
كما نمیز في هذا الإطار الجهوي في النظام الفدرالي الألماني الذي یمنح للجهة استقلالیة
ثلاثیة على المستوى الدستوري والتشریعي ثم الإداري. یرجع تأسیس جمهوریة ألمانیة الاتحادیة إلى
المؤتمر الدستوري، وقرر من خلاله منتخبي برلمانات الولایات تأسیس دولة اتحادیة دیمقراطیة
اجتماعیة بالإعلانات عن وضع صیغة لدستور اتحادي اعتبر بمثابة القانون الأساسي في توحید ألمانیا، وبلورة خصوصیات اللاندر المتمتع بدستور وبرلمان، وحكومة وتمویل وذلك بناء على
المحددات التي یرتكز علیها النظام الفدرالي والمتمثلة في القواعد التالیة:
توزیع السلطات الثلاث بین الاتحاد والولایات؛
توفر الولایات على بعض الخصائص المكونة للدولة كالاسم، العلم والسلطة؛
وجود هیئة قضائیة علیا مستقلة تبث في منازعات الطرفین.
كل هذا یترتب عنه القول بأن اللاندر الألماني، نموذج للجمهوریة ذات الاختصاصات الواسعة،
ومجالا یجمع بین الحریة والمسؤولیة وبین الوحدة والتعددیة، بین الاندماج والاستقلال الذاتي.
رغم اختلاف المدلول السیاسي والوظیفي لكل من جهویة الدولة الموحدة (فرنسا، المغرب
والفدرالیة (الألمانیة). أما بخصوص إسبانیا، فیصفها فقهائها بأنها دولة المجموعات المستقلة،
فإسبانیا من الدول الدیمقراطیة التي تأخذ بالنظام الملكي، تعرف نمطا فریدا في میدان التنظیم
الجهوي، وسبب ذلك طغیان النزعة الانفصالیة على بعض الجهات وكذلك التفاوت الصارخ بین
الجهات الشمالیة والجنوبیة خاصة المناطق الأندلسیة منها. ورغم تعاكس منطلقاتها، حیث أن
الفدرالیة هي انضمام بعض الدویلات إلى بعضها بغرض تكوین اتحاد فدرالي، أي أن الفدرالیة
تنبع من تحت في اتجاه فوقي. أما الجهویة في الدولة الموحدة فهي نابعة من سیاسة الدولة في
مجال اللامركزیة، حیث تعمد إلى تقسیم مجالها إلى جهات مما یجعلها نتیجة سیاسیة فوقیة.