📁 آخر الأخبار

العلاقة بين الدولة و الجماعات الترابية على ضوء الجهوية المتقدمة

 العلاقة بين الدولة و الجماعات الترابية على ضوء الجهوية المتقدمة


مر التنظیم الإداري للدولة الحدیثة بعدة مراحل تخللتھا أشكال مختلفة من الھیاكل، ولعل التنظیم الإداري الحالي یشكل أھم ما وصل إلیھا الفكر في المجال الدیمقراطي، وھو ما یتجلى عندما نلاحظ أنھا بجانب الإدارة المركزیة، التي تدیر تدبیر دوالیب الحیاة العامة للنظام السیاسي القائم، ھناك الإدارة المحلیة التي تم خلقھا لمواجھة المشاكل والتحدیات المحلیة، حیث أصبح من الصعب على المركز، أن یواجھ ھذه المشاكل أمام ما تتطلبه من سرعة وفعالیة ونجاعة في المعالجة، سواء على المستوى الإقتصادي أو الإجتماعي . وبذلك فالإدارة المحلیة ھي مجموعة من الأجھزة المنتخبة ذات الشخصیة المعنویة، تعمل على تدبیر الشأن الترابي، وذلك بتعاون مع ممثلي الإدارة المركزیة وتحت وصایة ھذه الأخیرة . 

وھي بالتالي تجسید واقعي لأسلوب اللامركزیة الإداریة، وتبعا لذلك فھي أسلوب دیمقراطي یخول بمقتضاه المشرع، سلطات تقریریة واسعة للأجھزة الجماعیة المنتخبة على المستوى المحلي، داخل مجال ترابي وجغرافي معین، وضمن النطاق المحدد لھا قانونا وتحت إشراف ورقابة السلطات المركزیة . ویثیر موضوع تطور علاقة الدولة بالجماعات الترابیة إشكالیة علاقة المركز بالمحیط والإصلاحات التي قامت بھا الدولة، بإعطاء إستقلالیة إداریة ومالیة للوحدات الترابیة، لتدبیر شؤونھا، وتصریف المھام الموكولة لھا .

 ومن خلال دراسة موضوع العلاقة بین الدولة والجماعات الترابیة، یمكن التركیز على مستوى توزیع الإختصاصات والموارد المالیة والبشریة، فتبیان المھام، یبین حدود تدخل الھیئات المحلیة، وكذا مدى إستقلالیة المجالس المحلیة، لكون خیار ومسلسل اللامركزیة في المغرب، فرض على الدولة نقل إختصاصات مھمة لفائدة الساكنة المحلیة، من أجل تعمیق الممارسة الدیمقراطیة، على مستوى الوحدات الإداریة الترابیة .

ویعتبر التنظیم الجھوي والجماعي بالمغرب، الوجھ الأبرز للامركزیة، كخیار دخلتھ الدولة منذ استقلالھا، بإعترافھا القانوني وتكریسھا الدستوري لھذه الوحدات الترابیة ذات الشخصیة المعنویة، والمتوفرة على صلاحیة تدبیر مصالحھا الخاصة، عن طریق أعضائھا المنتخبین بشكل حر ودیمقراطي، وقد عرف دخول المغرب في ھذا الخیار، تدرجا تمیز بتحول نوعي في الإطار المؤسساتي والقانوني المنظم للجھات والجماعات الترابیة الأخرى، إرتبط بسیاق الإستئناس بالتجربة مع ظھیر 23 یونیو 1960 ،ومرورا بعدة محطات إصلاحیة التي توخت تعزیز ھذه التجربة وتطویرھا . 

حیثث أن تطویر وتأھیل التنظیم الجماعي عامة، والجھوي على الخصوص، كان ھاجس المغرب منذ الحصول على الإستقلال، حیث كانت الخاصیة الأساسیة التي طبعت تطوره، ھي ترسیخ بنیات لامركزیة قادرة على إدارة الشؤون المحلیة بأسلوب حر وشفاف، یسمح للسكان بالمشاركة الواسعة والفعلیة في صناعة القرار التنموي، وتبني سیاسات عمومیة محلیة، بناءا على الرؤیة والإحتیاج الترابي، مع العمل على تكریس إدارة القرب، وترسیخ مبادئ الحكامة الجیدة، التي تستلزم إیجاد أسالیب حدیثة وكفیلة بخلق إقلاع تنموي مندمج ومستدیم، یعطي مكانة أكبر للامركزیة والدیمقراطیة المحلیة، وبناء جھویة متقدمة . 

ومنن خلال تطرقنا لموضوع العلاقة بین الدولة والجماعات الترابیة على ضوء الجھویة المتقدمة، سنحاول الوقوف على واقع ھذه العلاقة، من خلال التجربة اللامركزیة الجھویة الراھنة، بحیث أن ھناك مجموعة من الإختلالات والعراقیل، التي تحد من الإختصاصات نتیجة إعتماد المشرع المغربي على المقتضى العام، والصیغ الفضفاضة والمبھمة في تحدید وتوزیع الإختصاصات بین الدولة والجماعات الترابیة، وعلى رأسھا الجھات، نظرا لدورھا الھام، في مجال القیام بمشاریع التنمیة المستدامة والمندمجة . 

كماا أن ھناك إكراھات أخرى تحد من علاقة المركز بالمجال الترابي، ترجع إلى الوصایة المفرطة، ثم ضعف الوسائل المالیة والبشریة الممنوحة للوحدات الترابیة، بالإضافة إلى إشكالیة التقسیم الترابي سواء الذي تم العمل بھ في تجربة الجھات الاقتصادیة لسنة 1971 أو التقسیم الجھوي المعمول بھ حالیا في إطار القانون المنظم للجھات 96.4

لسنة 1997 بحیث خلفا مجموعة من الإختلالات، تتجلى بالأساس في إنعدام التوازن بین الجھات، من حیث الموارد والإمكانیات، مما خلف جھات غنیة قادرة على تدبیر شؤونھا، وجھات أخرى فقیرة لا تتوفر على موارد ذاتیة للقیام بالمشاریع التنمویة . 

ولتجاوزز ھذه الإختلالات في العلاقة بین المركز والمجال الترابي، التي إتسمت بھا التجارب السابقة والتجربة الجھویة الحالیة، فإن الأمال والأفاق تعقد على ورش الجھویة المتقدمة، من أجل تحسین علاقة الدولة بالجماعات الترابیة، حیث تم إطلاق ھذا الورش، وفق مقاربة تشاركیة ترأسھا الملك محمد السادس، من خلال الخطاب الملكي بتاریخ 3 ینایر 2010 ،الذي تم بمقتضاه تنصیب اللجنة الاستشاریة للجھویة، من أجل بلورة نموذج مغربي نابع من الخصوصیات الوطنیة، ومكرسا للتنمیة المندمجة، وبالفعل فقد قامت ھذه اللجنة بإنجاز تقریر شمولي حول الجھویة المتقدمة، من خلال إعتمادھا لمقاربة تشاركیة أخذت بعین الإعتبار إشراك جمیع الفاعلین في إطار نقاش وطني مفتوح حول ھذا الورش الھام . 

وھوو ما تم تكریسھ وبلورتھ من خلال دستور 2011 ،الذي دشن لعھد الجھویة المتقدمة من خلال تخصیصھ لحوالي 14 فصل، عن التفاصیل المتعلقة بالتنظیم الجھوي وطرق إنتخاب أعضائھ، ثم توزیع الإختصاصات والموارد بین الدولة والجماعات الترابیة، وعلاقة رؤساء المجالس الجھویة بالولاة والعمال، وغیرھا من الأفكار المقترحة في تقریر اللجنة الإستشاریة للجھویة، والتي تمت دسترتھا . 

لذلكك فإن ورش الجھویة المتقدمة، یتطلع من خلالھ المغرب إلى تحقیق الدیمقراطیة المحلیة وتكریس التنمیة المستدامة والمنذمجة إقتصادیا وإجتماعیا، وثقافیا وبیئیا، تكون مدخلا لإصلاح عمیق لھیاكل الدولة، من خلال السیر الحثیث و المتدرج، على درب اللامركزیة واللاتمركز الفعلیین النافذین، والدیمقراطیة المعمقة والتحدیث الإجتماعي والسیاسي والإداري للبلاد والحكامة الجیدة .

   ولھذه الأسباب فقد جاء الدستور المغربي الجدید لسنة 2011 ،لتكریس ورش الجھویة من خلال التنصیص على مقتضیات متطورة في ھذا المجال، فطبقا لمقتضیات الفقرة الأخیرة من الفصل الأول من الدستور، فإن " التنظیم الترابي للملكة تنظیم لامركزي یقوم على الجھویة المتقدمة "، حیث ربط ھذا الورش، بمبادئ الدولة الراسخة في ثوابت الأمة ( الدین، الوحدة الوطنیة، الملكیة الدستوریة والاجتماعیة والبرلمانیة، فصل السلط والدیمقراطیة والتشارك والحكامة الجیدة وربط المسؤولیة بالمحاسبة ... ) .

 لذلك یندرج إعتماد الجھویة المتقدمة، ضمن إعادة الترتیب الترابي داخل الدولة، على المستویات الإقتصادیة والإجتماعیة والسیاسیة والمالیة والإداریة، تبعا لذلك جاء الفصل 63 من الدستور الذي جعل من الجھات والجماعات الترابیة الأخرى شریكا أساسیا في تفعیل السیاسة العامة للدولة، وعنصرا مھما في إعداد السیاسات الترابیة، من خلال دعم تمثیلھا داخل مجلس المستشارین الذي ینتخب لمدة 6 سنوات . 

أماا الباب التاسع من ھذا الدستور، فقد خصصت فصولھ من 135 إلى 146 ،كلھا للتنظیم الجھوي المرتقب، كما تمت الإشارة إلى المبادئ الجدیدة للتدبیر الترابي، والتي ستحدد من خلالھا العلاقة الجدیدة بین الدولة والجماعات الترابیة على ضوء الجھویة المتقدمة، حیث حدد الفصل 136 مرتكزات التنظیم الجھوي الترابي في مبادئ التدبیر الحر، والتضامن ومشاركة السكان المعنیین في تدبیر شؤونھم، ثم الرفع من مساھمتھم في التنمیة البشریة المندمجة والمستدامة، وتتجلى أھمیة مبدأ التدبیر الحر، في كونھ أصبح مرجعا أساسیا في تعمیق اللامركزیة، وتنظیم العلاقة بین الدولة والجھات والجماعات الترابیة الأخرى، وبالتالي تفادي مسألة تنازع الاختصاص، فمبدأ التدبیر الحر للجماعات الترابیة، ھو حمایة إتجاه الدولة وباقي الجماعات الأخرى . 

وبالإضافةة إلى ذلك فقد ورد في الفصل 143 ،على أن الجھة تتبوأ تحت إشراف رئیس مجلسھا، مكانة الصدارة بالنسبة للجماعات الأخرى، في عملیات إعداد وتتبع برامج التنمیة الجھویة، وتصامیم إعداد التراب الوطني، في نطاق إحترام الإختصاصات الذاتیة لھذه الجماعات، وبالتالي یمكن القول بأن الدستور الجدید عمل على التحدید الدقیق لإختصاصات الجماعات الترابیة، ومنھا الجھات ورسم حدود تدخل كل واحدة منھا، بتخویلھا دستوریا الإختصاصات الذاتیة والإختصاصات المشتركة بقانون تنظیمي، ومن بین المستجدات التي یجب التنویھ بھا، من خلال الإختصاصات التي كان یمارسھا العمال والولاة، بإعتبارھم ممثلي الدولة، حیث تحولوا من وضع منفذي المقررات الجماعیة إلى ھیئات لمساعدة رؤساء المجالس الجھویة في تنفیذ ھذه البرامج، وبالتالي الإنتقال من علاقة الوصایة على الجماعات الترابیة إلى دور المساعدة والإشراف . 

وھكذاا فدستور 2011 أسس لعلاقة جدیدة بین الدولة والجماعات الترابیة، من خلال تنصیصھ على مجموعة من الآلیات والمبادئ التي ستحدد طرق توزیع الإختصاصات والموارد بین المركز والمجال الترابي، ومعرفة حدود تدخل كل طرف تكریسا للمبدأ الدستوري المتمثل في ربط المسؤولیة بالمحاسبة، وبالتالي أصبح الدور یقع الأن على السلطة التشریعیة والحكومة الحالیة للإسراع في الإنكباب على إصدار القوانین التنظیمیة الخاصة بالجھویة المتقدمة، والإلتزام بالبرنامج الحكومي الذي عرضتھ على البرلمان، حیث تم التصویت على القانون التنظیمي رقم 11.59 المتعلق بإنتخاب أعضاء مجالس الجماعات الترابیة، تمھیدا لقوانین لاحقة، عملا بمبدأ التدرج في الإصلاح الجھوي . وعموما فالدستور الجدید لیولیوز 2011 ،جاء بتصور جدید لتنظیم العلاقة بین الدولة والجماعات الترابیة، وخاصة الجھات، عن طریق تحدید أھداف جدیدة للتنظیم الترابي من قبیل تكریس الدیمقراطیة المحلیة، وتكریس اللامركزیة وبناء جھویة متقدمة ثم إدخال مفھوم الحكامة الجیدة في تدبیر الشؤون المحلیة، بالإضافة إلى تعزیز إدارة القرب، كما حدد مبادئ الحكامة الترابیة في مبدأ التدبیر الحر، مبدأ المشاركة، ومبادئ التضامن المجالي، والتفریع .

 كما عمل الدستور الجدید على تبني مرتكزات التنظیم الجدید للجھات والجماعات الترابیة الأخرى من خلال إعطائھا تسمیة وتعریف جدیدین، حیث تم تعویض الجماعات المحلیة، بمصطلح الجماعات الترابیة، وذلك ترسیخا للبعد الترابي والمجالي في عملیة التنمیة المندمجة، ھذا بالإضافة إلى توضیح دقیق للإختصاصات بین الدولة والجماعات الترابیة، أو بین ھذه الأخیرة نفسھا عن طریق مبدأ التفریع

وإنطلاقا مماسبق تم إعتماد الإشكالیة التالیة، دور الجھویة المتقدمة في بناء علاقة جدیدة بین الدولة والجماعات الترابیة، من خلال إعتماد مبادئ وآلیات التدبیر الترابي التي نص علیھا دستور   2011 لتحقیق حكامة ترابیة . وتنبثق عن ھذه الإشكالیة مجموعة من التساؤلات الفرعیة : 

  كیف ستؤسس الجھویة المتقدمة لعلاقة جدیدة بین الدولة والجماعات الترابیة، إستنادا للمبادئ الجدیدة والألیات التي جاء بھا دستور 2011 ؟ 

 على أي أساس سیتم تحدید وتوزیع الإختصاصات والموارد بین الدولة والجماعات الترابیة في إطار الجھویة المتقدمة ؟  كیف سیساھم ورش الجھویة المتقدمة في تعزیز الإستقلال الإداري والمالي للجماعات الترابیة ؟  مدى مساھمة الجھویة المتقدمة في تعمیق مسلسل اللامركزیة واللاتركیز الاداري ؟  ما ھي المرتكزات والأسس التي ستقوم علیھا وصایة الدولة على الجماعات الترابیة، في أفق التدبیر الجھوي المرتقب 

وترتیبا على كل ما سبق سیتم الاعتماد على التصمیم التالي في مناقشة وتحلیل ھذا البحث : 

الفصل الأول : تشخیص واقع العلاقة بین الدولة والجماعات الترابیة من خلال التجربة الجھویة الراھنة.

 الفصل الثاني : أفاق العلاقة بین الدولة والجماعات الترابیة على ضوء الجھویة المتقدمة

تعليقات